top of page

١٤- مدخلي إلى معبـد الشعر


حمـيد الخاقاني

 

قَصَـدْتُ عوالمَ الجواهري وكاتدرائياته الشعريةَ، بوعيٍّ أولَّ مرةٍ، حين كنتُ طالباً في الصف الرابع الثانوي. دَلَّني عليها، آنذاك، استاذُنا في درس الأدب العربي، حينَها، الشاعر محمد النقدي، بعدَ أنِ اطَّلَع على محاولاتي الاولى في كتابة القصيدة العمودية. محاولاتٌ كان فيها من البؤس غيرُ القليل.


منذ ذلك اللقاءِ به أصبح (أبو الفرات) مدخلي إلى معبد الشعر قراءةً وكتابةً. لقد شعرتُ، مثلما أحَسَّ أقرانٌ لي عرفوا بعضَ شعره في الفترة ذاتها، بأنَّ في الجواهري شيئاً آخرَ مختلفاً، لا نكاد نعثرُ عليه لدى الرصافي والزهاوي، وكانا كبيرَيْ عصرهما، ورمزَيْن لايُستهان بهما من رموز (مدرسة الإحياء والتجديد). في الكثير من شعر الإثنين نثريةٌ غير قليلة. وفيه إحساسٌ بلغة القصيدة وصُوَرِها الشعرية وجماليّاتِهما لا يرقى إلى إحساس الجواهري بها. لقد كان جَلِيّاً، منذُ البَـدْء، أنَّ شـعرَ هذا الجواهري يأخذُ قصيدةَ العمودِ، أو ما اصطُلِحَ عليه بقصيدة الكلاسيكيين الجُدُد، إلى آفاقٍ جديدة حقاً، لا تعرفها قصائدُ الآخرين من أقرانه، أو ممن سبقوه.


الغالبُ من شعر الجواهري يمضي بقارئه العارفِ إلى لغتنا في صفائها وتوقُدِّها، وطاقتها التعبيرية، وتلقائية حضورها الى محراب الفنان الحاذق مختارةً مكانها في روحه وفي قصيده.


سماتُ لغته الشعرية هذه لفتت، في وقت مبكِّرٍ من حياته الأدبية انتباهَ كبار ذاك الزمان إليه. فهذا (الزهاوي) يقول في ديوانه الأول الصادر نهايةَ العشرينات (1928): "قرأت ديوان الاستاذ الجواهري، فإذا هو، كاسمِ ناظمِهِ، عقودُ جواهرَ ثمينةٍ، يُبْهِرُ العينَ لَأْلاؤها. وهكذا شِعْرُ الشعور يَمْلِكُكَ سحرُهُ، وهكذا شعرُ الشباب الناهضِ تَهزُّكَ روعتُهُ...".


أما (الرصافي)، كبيرُ زمانه هو الآخر، فقد عارضَ، فيما بعدُ، قصيدةً للجواهري بقصيدةٍ له جاء في مطلعها:

أقـولُ لربِّ الشعر مهدي الجواهري،إلى كَـمْ تُناغي بالقوافي الزواهرِ

وكأنَّي به يتخلَّى، بهذا، له عن ربوبيَّتَهُ هو للشعر في عصره.

ثمَّ عادَ (الرصافي) وأجابَ، قبل وفاته، بفترة قصيرة، على قصيدة للجواهري، أراد لها شـاعرُها أنْ تكون أنيساً للرصافي في عزلته ووحشته في شهور عمره الأخيرة. ومما جاء في القصيدة ـ الأنيس هذه:

تَمَرَّسْتَ بالأولى فكنتَ المُغامِرا، وفكَّرْتَ بالأخرى فكنتَ المُجاهِرا

وفَضَّلْتَ عَيْشـاً بين تلك وهـذه،بهِ كنتَ، بل لولاهُ ما كنتَ شـاعرا

عن هذه القصيدة يجيبُ (الرصافي) مخاطباً أبا فراتٍ:

بكَ اليـومَ لا بي أصبحَ الشعرُ زاهرا، وقد كنتُ، قبلَ اليومِ، مثلكَ شـاعرا

كأنَّ الرصافي يشيرُ، مرةً أخرى، إلى أنَّ الشعرَ لم يَعُدِ اليومَ سواكَ يا جواهري.

وما أنْ طَوَتِ الأربعيناتُ أوزارَها حتى كان الجواهري قد غَدا ساحرَ القصيدة الكلاسيكية الجديدة وسيِّدَها دونَ مُنازع. ولم يعُدْ تفَرُّدُه بين الشعراء، قديمِهم وحديثهم، موضعَ خلافٍ يُذْكَر.

حتى حركة الشعر الحديث والقصيدة الحرَّة التي غَيَّرتِ الكثيرَ من المفاهيم بشأن الشعر والشاعرية، وألقتْ بالكثير من شعراء التقليد، ممن كان لأسمائهم، لمعانٌ وبريقٌ يوماً، في زوايا النسيان، لم تستطعْ أنْ تهبطَ بالجواهري من عليائه، ومرَّتْ سَيْلاً هادراً أمامَ قمَّةٍ ظلّتْ شامخةً حتى رحيل سـيِّدها.


وبعدَ عشرين عاماً على رحيلهِ مغترباً عن العراق الذي غنّى له، وذادَ عنه، وتوحّدّ معه فانياً في مياه فراتَيْه، وغِرْيَنِها البابلي، كما يَفْنى عاشقٌ صوفيٌّ بمعشوقِهِ. أليسَ هو المُنْشِـدُ:

أنا العراقُ لساني قلبُهُ ودمي، فراتُـهُ وكياني منه أشـطارُ

أما نزالُ نُرَتِّلُ، إلى اليوم، معه آياتِ (دجلة الخير)، آياتِ آلهتَيِّ الخصب والنماءِ (إينانا) وحفيدتها (عشتار)، ساكبينَ أرواحَنا في مياهه: أصلِ الخلق، منادينَ نهرَنا البعيدَ ـ القريبَ مع شاعرنا وأبينا:

يا دجلةَ الخيرِ، ما يُغليكَ من حَنَقٍ، يُغْلي فؤادي، وما يُشْـجيكَ يُشجيني

أقولُ بعد هذه العشرين يظلُّ ثمةَ الكثيرُ مما يُمْكِنُ قولُهُ في الجواهري الكبير حقاً. ثمةَ الكثيرُ مما ينبغي، ويجدُرُ، بحثُهُ فيما أورثنا من سِفْرٍ شعري متنوعٍ وغنيٍّ، لا يُمكن تَصُوَّرُ تاريخَ العراقِ الحديثِ دونَهُ.


* شاعر، واكاديمي

bottom of page