top of page

الجواهــري،عن الجمهورية الاولى ... وعبد الكريم قاسم


تحدثنا في كتابة سابقة حول عدد من مواقف الجواهري الخالد بشأن انقلاب البعث الدموي في العراق عام 1963 ومن بين ذلك رئاسته اللجنة العليا، العالمية، للدفاع عن الشعب العراقي التي انبثقت في براغ، وضمت العديد من الوجوه الثقافية والسياسية البارزة... ويهمنا في هذه التأرخة الاضافية ان نرصد ونوثق مواقف ورؤى جواهرية اخرى، بانت في قصائد وكتابات، لتدين ما شهدته البلاد من شلالات دم وحملات تعذيب واضطهاد شملت الالوف من مناضلي الحركة الوطنية، وبنات وابناء الشعب عموماً، التى طالها الانقلابيون البعثيون الاوائل، بعار جرائمهم، سيئة السمعة والصيت، والارث...

وقبيل ذلك، بل وفي سياقه، نسعى للتوقف ايضاً، وان بمؤشرات سريعة عند بعض ما نصح به الجواهري، وما حذر منه، منفرداً، او سوية مع العديد من القوى الديمقراطية والشخصيات الوطنية، قبل وقوع الانقلاب الفاشي، وعشيته، من نتائج نهج التفرد، والتسلط، وتجاوز المبادئ التي قامت تحت شعاراتها حركة الرابع من تموز 1958 العسكرية، المدعومة شعبياً....

ولعل مراجعة وان عجولة لصحيفة الجواهري، الرأي العام، في تلكم الفترة، تثبت بجلاء، كماً واسعاً من المناشدات الهادفة من جهة، والانتقادات الساخنة والحادة من جهة اخرى، التي كالها الشاعر والرمز الوطني الكبير... فضلاً عما حوته فرائده اللاهبة، تعبيراً عن ضمائر الجماهير، الامينة على مستقبل البلاد وتطورها. ومن بينها- على سبيل المثال - ما جاء في قصيدته الموسومة "باسم الشعب" عام 1959 مخاطباً فيها المسؤول الاول، والاخير، في البلاد:

"عبد الكريم" وفي المراء جبانةٌ، تزرى، وصنو شجاعة إصراحُ

كنت العطـوف به يُراض جماحُ، فكن العنـوفَ، به يهاضُ جناحُ

لا تأخذنــكَ رحمة في موقف، جــدٍ، فجـدُ الراحميـــن مزاحُ

ولطالما حصد الندامةَ مسمحٌ، وأتى بشرٍ ثمارهِ الاسماحُ

ولقد تكون من القساوةٍ رحمةٌ، ومن النكالِ مبرةٌ وصلاحُ

ومع كل ذلك لم تنفع تلكم النصائح والمناشدات المخلصة، ولم تُؤخذ التحذيرات المدعمة بالملموسيات والتجاريب، موضع الحرص على امن البلاد ومسار التحولات الديمقراطية المرجوة، بل وبدلاً عنها، راح عسف السلطات "الجمهورية" يتمادى فيشمل الجواهري ذاته، والى حد اعتقاله فترة من الوقت، برغم انه شاعر الامة العراقية، ورئيس اتحاد ادبائها انذاك، ونقيب صحفييها الاول... مما اضطره، احترازا،ً للاغتراب القسري عن الوطن، شبه هارب "من رافديه" محتجاًً، وضاغطاً، بهذا الشكل اوذاك على ولاة الامر، بل ووليّه بتعبير أدق، لتدارك ما لا تحمد عقباه. ولعل من المناسب للتوثيق الملموس هنا، الاشارة الى المواجهة المباشرة، ذائعة الصيت، بينه – الجواهري - والزعيم عبد الكريم قاسم، في مقره بوزارة الدفاع، بسبب ماكتبه الشاعر والرمز، دفاعا عن "الثورة" وضد التجاوزات على المواطنين، وخاصة مقاله في اواسط 1959: ماذا في بلدة " الميمونة" بمدينة العمارة. "1".

وفي بيروت، محطته الاولى قبل الوصول الى براغ، ضيفاً ثم لاجئاً، لم يفوت الجواهري ان يوثق بعض ما يجري في العراق، وهو شاهد ومعني في الصميم، وذلكم في قصيدته(ربيع عام1961) بمناسبة مهرجان حافل لتكريم شاعر لبنان " بشارة الخوري" اذ صارحه فيها، شاكياً ومهضوماً:

وأتـيـتُ (لـبـنـانـاً) بجـانحتين من ريحٍ غَضوبِ

مثلَ المسيح إلى السماءِ وقد حُمِلتُ على صليب...

أ "بِشــــارةٌ" و بـأيمــــا شكوى أهزّكَ يا حبيبي؟

شكوى القريب إلى القريــب أمِ الغريب إلى الغريب؟

هل صكّ سمعَك أنني من رافديّ بلا نصيبِ

فـي كُربةٍ وأنا الفتى الــمِمْراحُ فرّاجُ الكروبِ

ثم يوثق الجواهري، في الطلب الذي تقدم به للحصول على اللجوء الى براغ (20/6/1961) الكثير من المؤشرات ذات الدلالة، ومن بين ما جاء فيه: "تمشياً مني على النهج الذي سلكته طيلة حياتي في مجالات السياسة والصحافة والشعر والأدب، من أن أكون إلى جانب الجماهير في كل ما يمسُّ مصالحها، فقد تعرضت منذ سنتين، وفي خلال الحكم الراهن في العراق لكثير من المضايقات على يد الحاكمين، مما يطول شرحه" "2". ...

واذا كانت هذه الحال مع الجواهري، صاحب "أنا العــــراق"و"المقصورة"و" جيشَ العراق"... والرمز الثقافي والوطني الابرز في البلاد، فللمتابع ان يستنتج، ودون كثير عناء، كيف كانت السلطات" الجمهورية" تتعامل مع انصار الديمقراطية، بينما تتغاضى في الساع ذاته عن توجهات واستعدادات المتضررين من سقوط العهد الملكي، واترابهم، والقوى والشخصيات الشوفينية والظلامية والطائفية، لقلب نظام الحكم الجديد، والانتقام من الجماهير الشعبية، وقياداتها، دعوا عنكم قادة وضباط حركة الرابع عشر من تموز، الوطنيين الاحرار. "3"

لقد تكررت مناشدات الجواهري وتحذيراته من تجميد الحياة الدستورية وتغييب الديمقراطية، كما من مغبة التفرد في الحكم، ومن التخبط السلطوي، و"المساواة" على اقل وصف، بين القوى الوطنية والجماهيرية، ومناهضيها، المناوئين، والمتحالفين معهم، للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المبتغاة... وقد راحت تعلو دعوات هنا لليقظة من احقاد الموتورين، وتتعالى دعوات هناك لنبذ الفرقة والغلو، ولمزيد من التلاحم بين ابناء الشعب، ولرصد المتامرين في الداخل والخارج، والاستعداد لمواجهتهم قبل فوات الاوان، ومن بين ما نستعين به للتوثق بهذا الشأن ما جاء في قصيدة الجواهري " أزف الموعد" التي ناشد فيها الطلاب العراقيين،عام 1959:

ياشبابَ الغدِ كونوا شِرعةً، للعلا والبأسِ واللطفِ تُسَنّ

سالموا ما اسطعتُمُ حتى إذا، شنّها حرباً أخو بغيٍ فشُـنّوا

وابدأوا الخيرَ سباقاً بينكم، فإذا بُـودئـتمُ الشـرّ، فثـنّـوا

وهكذا هي الحال، او شبيهة بها، مضامين قصيدة الجواهري، الى جموع العمال عام 1959 المعنونة " عيد اول ايار"... ومن ابياتها ذوات الهدف في التنوير، وفضح بعض وضع الحكم "القاسمي" وتناقضاته، وارتباكاته وتجاوزاته:

ياأيـهـا العُمّـالُ صفـحَ تسـامحٍ، عمّـا تجيشُ ببثّـهِ خطَراتي

أنا لا أثيرُ ظُنونَكم، لكنْ فتىً، حراً يحبّ حرائرَ الصّرَخات

ماانفكّ تِنّينُ التحكّمِ قائماً، وتقاسمُ الأرباح فـي الشركات

مازالت الشمّ النّواطحُ تُبتنى، من تلكمُ السّرِقات والرّشوات

لِم يُؤخَذُ المالُ المقطّعُ منكمُ، ُسحتاً، ولـم تُقطَعْ أكفّ جناة!

وحين لم تنفع الذكرى، ولا يبالي المعنيون بتحذيرات الجواهرى واستشعاراته وتنبؤاته، واذ يتجاهل الرجل الاول، والاوحد، في السلطة، نداءات ومطالبات التقويم والاصلاح، والتشدد تجاه اعداء البلاد، تحل الكارثة في الثامن من شباط المشؤوم (بغي الانقلابات) "4"... ليحترق العراق وابناؤه، فـ"يقتاد "زيد" باسم "زائدة " و "يصطلى "عامرٌ" والمبتغى "عمرٌ".. وغير ذلك كثير وكثير. وفور ذلك راح الجواهري منتصراً، كعهده، للشعب ضد الطغاة، بمواقف وقصائد لاهبة تنور وتعبر، وتتضامن مع الشعب المنكوب، وتمجد الضحايا المياميـــن. وتأتي صرختـــه الاولى، ومن القـــلب قبل اللسان، في قصيدتـــه اللاذعة الشهيـــرة بـ " ياعبدَ حربٍ وعدوَ السلام" والتي يخاطب فيها "امين الاعور" . "5":

"أمينُ" لا تغضبْ فيومُ الطـَّغامْ، آتٍ وأنفُ شامتٍ للرَّغامْ

وإنْ غدا العيد وأفراحُهُ، مآتِما ً في كل بيتٍ تـُقامْ ...

أمينُ خلِّ الدَّمَ ينزِفْ دمـاً، ودعْ ضراما ً ينبثقْ عن ضرامْ

ودعْ مُدى السفـّاح مشحوذة، ظمآنة ً، يُبَلُّ منها الأ ُوامْ

فالسيف يُعلى من شذا حدِّهِ، يومَ التنادي كثرة ُ الإنثلامْ* * *

"أمينُ" ألقى الغيُّ أستارَهُ، وانزاحَ عن وجهِ النفاقِ اللثامْ

ما أقذرَ الفِسْق وإنْ ألـَّفـَتْ، بين الزواني روعة ُ الإنسجامْ

من مُبْـلِـغُ الفاجرَ في ضَحْوَةٍ، على رؤوس المَلأِ المُسْـتـَضام:

يا عبدَ حربٍ وعدوَّ السلام، يا خزيَ من زكـّى وصلى وصام

يا سُبـَّة ََالحجيج في عَمْـرةٍ، بين الصفا وزمزم ٍ والمُقام

يا ابنَ الخـَنا إنَّ دماءَ الكرامْ، نارٌ تـَلـَظـّى في عروق اللئام

وللضحايا من جِراحاتها، أيُّ عيون ٍ خـُزّر ٍ لن تنام

ثم توالت لواهب ولواذع الجواهري تلاحق الجناة،عراقياً وعربياً وعالمياً، وتدين المجازر التي تلت شباط الاسود، وتمجد الضحايا الابرار، ومن بينها قصيدته الموسومة " سلاماً...الى اطياف الشهداء الخالدين " . وهنا، لا يفوتنا ان نوثق عن العسف والجور، الذي طال كوردستان العراق، قبل الانقلاب البعثي، وخلاله كما وبعده، اذ انصبت عليها، وعلى شعبها، احقاد وقنابل الفاشيين والعنصريين. وقد وقف الجواهري امام ذلك العنف الشوفيني المقيت ليجود بــ"قلبه ولسانه" فاضحاً ومدافعاً، كما ومتباهياً بنضال الكورد وتضحياتهم، فيهدر:

يا موطن الأبطال مهما أسفرت، نُوَبٌ تسيء حكومةً إذ تحكمُ

مهما ارتمت ذممٌ، وهانت عفةٌ، وهوت مقاييسٌ، وأوغل مجرمُ..

ياموطن الأبطال مهما ديس من.. حَرَمٍ لَدَيكَ، وما استبيح محرّمُ

فلسوف يجزوك الكفاحُ بغاية، لك عندها عن ألف غُرم مَغنم..

ولسوف ينكشف المدى عن واحةٍ، خضراءَ عن غَدِكَ المؤمّلِ تبسِمُ

أخيراً نوجز في هذا السياق فنقول ان ثمة الكثير الاخر، وجميعه يُغني ما اردنا الذهاب اليه، في تلخيص بعض من رؤى ومواقف الجواهري العظيم حول نكبة شباط 1963 ومقدماتها، وفشل التصدي لها، بل واحباطها، وما بين هذه وتلك: المسببات، والاخطاء، بل والخطايا، السياسية ذات العلاقة، وذلك من الاهم، على ما نزعم.

*احالات وتوضيحات:-----------------------------------------------

1- لمزيد من التفاصيل: الجــزء الثاني مـــن " ذكرياتي" للجـــواهري- 1991 .

2- ومما جاء في طلب اللجوء ذاته، والذي نشرنا عنه على الانترنيت في تشرين الاول2011 النص التالي عن مديات العسف الذي طال الجواهري من سلطات "الثورة" في بغداد خلال الفترة 1959-1961: " لقد بَلغت قبل شهرين تقريباً حد اعتقالي وسجني – وأنا أناهز الستين من عمري – بأسباب كاذبة مفتعلة ....".

3- نعني بذلك خصوصاً كوكبة الضباط الوطنيين الذين رفضوا، بهذا الشكل أو ذلك، نهج التفرد "القاسمي" والاجراءات التعسفية، في ملاحقة المسؤولين والسياسيين المخلصين، وتقريب الانتهازيين والمشبوهين والمتامرين، وتحت شعارات "الوسطية" و" عفا الله عما سلف" والتي اودت بالبلاد الى ما اودت به.. ومن كوكبة اولئك الضباط الاحرار: جلال الاوقاتي، وصفي طاهر، طه الشيخ احمد، فاضل عباس المهداوي، ماجد محمد امين، وكنعان حداد... واقرانهم الابطال، والذين استشهدوا اثر الانقلاب الاسود..... 4- "بغي الانقلابات" تعبير اطلقه المناضل الوطني، الشيوعي العراقي، زكي خيري، تصدياً لمصطلح "عروس الثورات" التي روج له الشوفينيون والفاشيون العراقيون، وأنصارهم العرب، كناية عن كارثة شباط الاسود.5- امين الاعور: صحفي لبناني نشر مقالة عاصفة، عنونها الى الجواهري، حول المذابح التي وقعت في البلاد العراقية غداة الانقلاب البعثى الاول عام 1963.

-----------------------------------------------

مجتزأ من كتاب" الجواهري... بعيون حميمة" لـ "رواء الجصاني"

الصادر في بغداد وبراغ وبيروت عام 2016


bottom of page