في "المقامة" السورية ... وعنها
نتوقف في هذه التأرخة الجديدة عند بعض "دمشقيات" الشاعر الكبير، رائين في "شممت تربك" ذات الخمسة والسبعين بيتاً، إيجازاً موحياً، وخلاصات وافية، لعقود من المحبة والوفاء لعاصمة وبلد وناس:
شممتُ تربك لا زلفى، ولا ملقا...وسرت قصدك لاخبّاً، ولامذِقا وما وجدتُ إلى لقياك منعطفا إلا إليك، ولا ألفيت مفترقا وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي حتى اتهمت عليك العين والحدقا شممتُ تربك أستاف الصبا مرحا، والشمل مؤتلفاً، والعقد مؤتلقا وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً، لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا
وعشق الجواهري هذا، لدمشق، وأهلها، يبدأ منذ مطلع العشرينات الماضية، ولعلّ بيتاً واحداً فقط من قصيدته "ابن الشام" المنظومة عام 1921 يكفي ليوثـّـق وحده، ما نريد التحدث عنه طويلاً، حين قال:
اني شآمي الهوى.. فإذا نُسبت لموطن ٍ، فعراقي..
وهكذا توالى القصيد وصفاً وسرداً وتخليداً، وافتتاناً، وبين هذا وذاك الكثير الكثير في سفر الشاعر الثري على مدى العقود السبعة اللاحقة... وهاهو يؤرخ لبعض ذلك في مقطع ثان ٍ من "شممت تربك" الفريدة...
دمشقُ عشتك ريعاناً وخافقة، ولمّة، والعيون السود والأرقا وها أنا ويدي جلدٌ وسالفتي ثلجٌ، ووجهي عظمٌ كاد أوعُرقا وأنت لم تبرحي في النفس عالقة، دمي ولحمي والأنفاس والرمقا
تموجين ظلال الذكريات هوىً ، وتسعدين الأسى والهمّ والقلقا
ان الحديث عن محطات الجواهري السورية يطول ويتشعب، في مجالات وموحيات لا حصر لها... ونرى بأن من اهمها احتضان دمشق للجواهري، لاجئاً سياسياً إليها عامي 1956- 1957. بعد مطولته في الشهيد عدنان المالكي، ومطلعها ذائع الصيت الذي أثار ما أثار من ضجة وتسؤالات في تلك الفترة:
خلفت غاشية الخنوع ِ ورائي، وأتيت اقبس جمرة الشهداء.....ثم تجيء أهم محطاته السورية الحافلة العطاء، وقل الأبرز والأوثق، حين استضافته، مغترباً من جديد عن وطنه، برعاية استثنائية من الرئيس حافظ الأسد، منذ 1982، وعلى مدى خمسة عشر عاماً، وحتى 1997 تحديداً، حين رحل فيها، بعيداً عن دجلة الخير، وما برح في ثراها إلى اليوم، ولا أحد يدري ان كان سيسرى به إلى عراقه ذات تاريخ!!.
من كتاب " الجواهري ... بعيون حميمة"
الصادر في بغداد وبيروت ووبراغ عام 2016