٣٤- الجواهري.. السبعُ السبَمْبَع
عواد ناصرمفيد الجزائري
ارتفع صوته على غير توقع، فاستدارت نحوه الرؤوس:
عمي اريد مَيْ، مَيْ.. كم مرة لازم اعيدها؟
خيّم الصمت. وبدا ابو محمد، الكهل الضئيل الجالس متربعا بدشداشته وعرقجينه الابيضين على احد السريرين، اللذين يكادان يملآن الغرفة الصغيرة، كمن لم يكمل كلامه.. ادار نظره في الوجوه من حوله: كانت فتيّة نضرة، بعضها من سلالته، واخرى لبنات وابناء الزائر الكبير الذي اتاه مرحبا من غرفته في الفندق نفسه، وبعض ثالث لشبان من اصدقاء هؤلاء واولئك. وفي السكون الطاغي وجد الفرصة مواتية ليواصل كلامه:
- صدق المثل القائل: السبع اذا شاخ..
وتوقف. لم يجد نفسه في حاجة الى قول المزيد، فقد ضجت الغرفة تلقائيا بالضحك. ولاحت ابتسامة عذبة حتى على وجه أم محمد، التي استهدفها بشكواه وتقريعه.
وابتسمت ام نجاح ايضا. لكن ابتسامتها بدت مختلفة. كانت تجلس على حافة السرير الثاني في الغرفة، الى جانب زوجها الذي مد رجليه الطويلتين مثل سلطان. التمعت عيناها بمكر محبب. هل كانت تفكر في قدرتها على "عدم سماع" والد ابنائها وبناتها لو انه طلب منها قدح ماء؟ عدلت من جلستها والتفتت الى الجمع المزدحم في الغرفة الضيقة.. لم تتفاجأ بالانظار مركزة عليه، فهكذا هو حال ابي فرات على الدوام وحيثما حل. تنقلت بعينيها الضاحكتين بين الوجوه، ثم كسرت الصمت وهي تقول متباهية:
- لا والله عيني، مو كل سبع..
انفجر الجمع ضاحكا من جديد. واسترسل البعض في الضحك.
وما ان عاد السكون حتى راحت العيون تلاحق ابا فرات بفضول وترقب، ووراءها التمنيات بسماع تعليق او كلمة من فمه مباشرة!
ولم يطل الانتظار..
تنحنح ابو فرات مبتسما، وجال ببصره في الوجوه المحبة التي تطوقه، وقال بصوت عميق باسم هو الآخر:
- هذا يسمونه.. سبع السبمبع!
حدث هذا في اواخر صيف سنة 1961 في مدينة براغ - عاصمة "تشيكوسلوفاكيا" آنذاك. وكان ابو فرات الجواهري، الذي غادر بغداد قبل ذلك بشهور متبَرِّما باوضاعها ومحبطا ("في كُربةٍ.. وأنا الفتى الممراح فرّاجُ الكروب") قد استجاب لدعوة تلقاها من اتحاد الكتاب التشيكوسلوكيين، وبدأ يستقر في مقامه الجديد. لكنه اضطر الى الانتظار بعض الوقت الى حين توفر السكن الدائم المناسب، فبقي نزيل الفندق الذي حل فيه ايضا الاصدقاء سابقو الذكر القادمون من بغداد، فزارهم مرحبا.
وتحضرني تفاصيل هذا كله اليوم، وانا استرجع على عجل الوقائع ذات الصلة بالجواهري خلال العقدين من السنين اللذين انقضيا على رحيله. فمن الواضح ان حضوره فيهما شاعرا وداعية للنضال الوطني وشخصية وطنية سياسيا وثقافيا لم يتضاءل في الواقع، بل ظل قويا ومؤثرا في حياتنا وإن بصورة غير ملحوظة دائما.
وارتبط هذا من دون ريب بحقيقة ان جيلنا، نحن الذين عاصرناه وقاسمناه معاناة السنين الطويلة السالفة، والذين عبّر في شعره عن احاسيسهم وأمانيهم واستنهض عزائمهم فتأثروا به عميقا، ما زال حيا فاعلا في واقع مجتمعنا. كذلك ارتبط بكون تلك المعاناة، التي اسهمت في اطلاق موهبة الجواهري الشعرية وتشكيل دوره السياسي الثقافي، ما برحت هي هي ان لم تتفاقم.
وقد يشهد الحال بوجهيه تغيرا تدريجيا مع رحيل هذا الجيل خاصة والذي يليه، وانحسار دورهما وفعلهما من جانب، ومع التحولات المرتقبة في احوال البلد وظروف العيش والوجود عموما في الغد غير البعيد ربما.
ومن المرجح ان يحد ذلك فضــــــــلا عن عوامل غيره، بدرجة او باخرى، من تأثير الجواهري المباشر كظاهرة ثقافية - نضالية، لكنه لن ينــــال في حال من حضوره "سبعا سبمبعا" في ميدانــــه، قامة شعرية ثقافية من طراز نادر، تبقى تمارس فعلها الشامل من دون حدود.
* كاتب واعلامي