٢٤- مع الجواهري في بعض محطاته
د.عبد الحميد برتو
مضى عشرون عاماً على رحيل الجواهري الكبير، ولم تُغيّر تلك الأعوام شيئاً، لا من صورته أو موقعه، ولا من معاركه، ولا من نبوآته وتقديراته. وكذلك الحال فيما يخص قراءاته لواقع بلاده وأمته، ولا من رؤيته لطريق خلاصهما من العبودية الرعناء، نحو شامخات الذُرًى. وتظل طموحاته لأهل "الزرائب الفساح" هماً كبيراً عنده حاضراً وراحلاً. ولا أظن أن العقود القادمة ستغيّر شيئاً من مكانة الجواهري، ولا أجازف إن قلت: حتى في القرون القادمة بإستثناء ما كان ينشده ويدعو إليه. وربما لا تُغيّر حتى من صَبَواتِه، كما يتوهم أو يصفها البعض.
ليست المكانة العالية للجواهري موضع نقاش فيما يتعلق بالكشف الإبداعي رسماً وغناءً وإشتقاقاً ومداعبة للكلم في بنائه ومضمونه، لا في العراق حسب، بل في كل بلاد العرب، التي غنى لهما وحدا. بل وعلى نطاق الشعر العربي من أول بيت وصل إلينا الى يومنا هذا. لا أوغل في تقويم الجواهري شعراً، فذاك لست أهلاً له كإختصاص، ولكن حين أتعامل مع سوسيولوجيا القصيدة الجواهرية أجد ما يُذهلني، ويخلق حالة لم أألفها في القراءآت الأخرى. أما من يسمع التغريد المباشر بصوته، ويرى حالات تعبيره وهيئته كلها، فذاك سحر أتمنى لا يُحرم إنسان منه.
لا تختلف بداية تعرّفي على الجواهري عن بقية أقراني، حين أدخلت وزراة المعارف العراقية شعر الجواهري الى مادة الأدب العربي المدرسية في المرحلة المتوسطة. كانت قصديته "تنويمة الجياع"، تتجاوز تأثرنا بها نحن الطلبة، لتُشكل سحراً معلناً لأساتذتنا للغة العربية أيضاً، الذين تغنوا بها تأثراً وإعجاباً وإحتراماً.
جاءت المحطة الثانية بعد إنقلاب 8/شباط/1963 الدموي، الذي أباح قتل وإبادة الشيوعيين والتقدميين العراقيين. زملائي وأنا من أبناء مدينتي وجيلي كنّا في سن الشباب، حين أحاط بنا الخطر، وألقى علينا مسؤوليات أكبر من أعمارنا، وكنّا بأمس الحاجة لمصدر دعم وإشعاع، خاصة بعد أن تقطعت لحين الصلات مع المركز في بغداد. هنا كان للجواهري حضوراً مميزاً في نفوسنا، حيث ألهبت قصائده حماسنا وإصرارنا، وكان لإذاعة "بكي إيران" التي تحولت الى إذاعة "صوت الشعب العراقي" دوراً عظيماً. وغنيّ عن البيان دور لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، التي تأسست بعد الإنقلاب في العاصمة التشيكوسلوفاكية ـ براغ، وتولى الجواهري رئاستها.
بعد نحو ستة أعوام وتحديداً في 15/12/1969 توجهت الى براغ، وهناك منذ ذلك التاريخ بدأت صداقتنا، الجواهري وأنا، صداقة عميقة شهدت الكثير من الأحداث الهامة على الصعيدين الشخصي والعام، وأحببنا سوية ذات العواصم الجميلة: براغ؛ دمشق، وبودابست.
طلب مني مركز الجواهري في براغ، مساهمة بحدود 300 كلمة عن الجواهري الكبير، هذا العدد لا يتسع حتى للعناوين، مع هذا أقول: في براغ إزدهرت صداقتنا، وفي دمشق شهدتُ كتابته لمذكراته، وندمه على أنه لم يكتبها في وقت مبكر، وودعنا سوية شقيقته الغالية "نبيهة" في رحلتها الأبدية. وفي بودابست التي أحبها، وتردد عليها، بل وحصل على الإقامة فيها، لرعاية دار صحارى للصحافة والنشر التي أسستها هناك في 1990 وفيها تابعنا يوميات حرب الخليج الثانية، وأهدى الدار أحدى أجمل قصائده: "أنيتا" لتطبع في ديوان منفرد. وساعود الى تلك الموضوعات في وقفات أخرى.
أبا فرات عشت عظيماً، وتركت أعمالاً عظمية، حضورك ووطنيتك يبقيان بعد رحيلك الأبدي مدرسة للأجيال تعلمهم كيفية خدمة الفن والإنسان والوطن.
* كاتب واكاديمي