top of page

٢٠ - من جواهر الفقه إلى جواهر الأدب


د. صباح علي الشاهر

 

بما أكون من المحظوظين الذين قيض لي أن ألتقي بالجواهري العملاق أكثر من مرة، آخرها في

لندن في حفل تكريمه الذي أقامته جريدة "القدس العربي" في تسعينات القرن الماضي، نحن جيل يفتخر أنه عاش في عصر الجواهري الخالد، والجواهري قصيدة، مكتوبة أم مسموعة أم مرئية، عندما تكون في حضرة الجواهري فأنت في حضرة الشعر كله.


كنت وما زلت أتهيب الكتابة عن شعر الجواهري، فشعر الجواهري جبل سامق يصعب إرتقاءه، لكنني أود أن اشير إلى أن الجواهري ظاهرة شعرية عربية فذه يستعصي على التأطير الأكاديمي، هو المدارس الشعرية كلها، ويخطيء من يحشر شعر الجواهري في مدرسة أدبية، ويخطيء أكثر ذاك الذي يصنفه كشاعر كلاسيكي إحتكاماً لعمود الشعر، أي للشكل، علماً أن الشكل ليس هو من يحدد المدرسة الأدبية بل المضمون، ومضامين شعر الجواهري لا تؤطرها مدرسة، هو كلاسيكي الشكل، رومانسي الأحاسيس، واقعي التناول، إنساني النزعة، عراقي الإنتماء، عربي اللسان والهوى، ثوري المواقف، ملتحم بقضايا شعبه وأمته، والإنسانية جمعاء.


وهو مجدد ومطور في المبنى والمعنى، ومبدع معان ومفردات، إسميها بلا تحفظ (جواهرية)، ولا يسع المجال إحصاء مفردات الجواهري المتفردة التي لم يسبقه إليها أحد.


"جربيني" قصيدة كتبها في عشرينيات عمره سبقت ما كتبه نزار بعقود، و"أنيتا" معلم إبداعي متجاوز لزمانه مبنى ومعنى، ولسنا بصدد شعره النضالي، فذاك ميدان لا يضاهي الجواهري فيه أحد، ولا أظن أن الشعر سيحضي لأمد غير منظور بشاعر يلتحم عضوياً بقضايا شعبه وأمته ويعبرعن نبض الناس كما عبر الجواهري الخالد.


لله درك يا أبا فرات، شرقوا وغربوا في محاولة تعريف ما لا يُعرّف، لكنك بلمسة عبقرية جواهرية أدهشتنا (فواجد هم بث ما يجدُ)، وذلكم هو "أصل الحكاية" كما يقول أخوتنا أبناء وادي النيل، لقد حمل الجواهري همه، وهم الناس، وهم الشعب، وهم الأمه، وهم الإنسانية، ولم يتوان لحظة عن البوح مهما كانت الظروف والعقبات، فأحتل بجدار موقعه في قلوب الناس ووجدانهم، وحفر إسمه في سجل الخلود الأبدي.


* كاتب واكاديمي

bottom of page