top of page

٨- شذرات من جواهر الجواهري


ابراهيم الخياطجمعة اللامي

 

” الفنُّ ، ذراعُ الطبيعة اليُمنى” – تشيللر


كنّا فتية ثلاثةٌ ، ورابعنا كوكبٌ دريّ ، يُوقدُ نوره من الكلمة الأُولى التي زمانها ما قبل التاريخ : ذلك هو الشعر ـ الطبيعة، عندما كانت الدنيا – وقتها – صغيرة ، فاتسعت دوائرها ، وامتدت حافاتها ، إلى النقطة التي لا نقطة قبلها ، لأننا كنا مع الشعر الذي يمشي في اسواق لغة الضاد على قدمين : محمد مهدي الجواهري، فضاء الهوية والمسؤولية والإبداع .


(2)

تعرفتُ عليه في المكتبة العامة لمدينة العمارة، بإلتفاتةٍ ناهضة وفريدة من الزمن ، عندما خرجنا في مظاهرة طلابية ضخمة لمناصرة مصر في سنة 1957. كان ذلك عندما تعدت مراهقتنا غير المجرّبة ،بَعدُ ، السور الأول من أَشواقنا. ومع الهتافات والشعارات الوطنية ، قرأت على الرفاق الفتية : سلامُ على مثقلٍ بالحديد! كنا نحن الفتية الثلاثة، نقتفي درب الشهيد “عطا ” ، الماركسي الميساني ، من غير أن نعرف ما هي الماركسية. كنا نحسبها خطابات جمال عبد الناصر. لكننا بمعرفة قصيدة الجواهري تلك ، صار الشهيد “عطا” ، رمزاً للعراق ، وغدت الإشتراكية مرافقة لتصوراتنا الأولى عن العدالة في العراق الحديث.


(3)

****ويوماً بعد يوم ، وسنة بعد أخرى ، عندما جابهت صدورنا بغدادُ. ثم حين لم تهدأ أسئلتنا الفكرية والأخلاقية، في المعتقلات والسجون المَدينيّة والصحراوية ، عن الفن والحياة والإنسان والوجود ، استوى الجواهري، الإنسان والشاعر ، المنارة الأعلى ، والأركز ، والأجمل ، بين منارات الشعر العراقي ، الذي رافق الحركة الوطنية العراقية.


(4)

كنت أعلن أمام عدد من زملائي الشباب في سجن نقرة السلمان ، بين سنتي 1963 – 1965 ، أن الجواهري هو الأنموذج العراقي ، ل ـ ” المتمرد ” الفلسفي . وكان ردّ اغلب الزملاء أن الجواهري لا علاقة له بـ ” حامل الصخرة الذي عرف السرَّ الرهيب”. كانوا يرون فيه الشاعر الذي يتبع السياسي وكنت أقول : يهمني فعله. لماذا جمع ما بين الجواهري والمعري والمتنبي، في “أَناه” الفريدة؟.

وكنت أجيب نفسي : لأنه شاعر بحق !

والشاعر الحق ، فرديّ بطبعه ، معتزل بسليقته.

ولو كان الجواهري ، يُماثل غيره من أقرانه الشعراء العراقيين والعرب ، الذين استكانوا إلى إطار ثقافي ذي خط واحد في الفكر والعمل، أو الى حزب سياسي تحبسه الأيديولوجيا عن رؤية سعة الحياة وخلود الطبيعة ، لكفَّ عن أن يكون على ما هو عليه في حياته ، أو حتى يعد موته : الجواهري سار في حياته بين الناس ، أو في حياته الشعرية ، مثل صاحبه المتنبي ، غريباً كصالح في ثمود ، ولهذا بقيت روحه عصيَّه على التطابق مع جماعته الاجتماعية والسياسية والثقافية ، مثلما بقي أميناً لعزلته ، في أرقٍ يقوده إلى أرق ، ومن نفور إلى نفور ، وهو حال الشاعر الفرد المتفرد.

وهو ينماز على غيره من شعراء العرب الكبار أيضاً ، بميزة أنه ظلَّ شاعراً متفرداً ، منذ شبابه ، وحتى إلى ما بعد موته ، فقصائده كلها تشير إلى هذه الاطروحة الفنية – الوجودية.


(5)

وبعد كل قفزة في التاريخ ، سواء كنا منتصرين أو منكسرين ، كنت أجد في الجواهري ، لاسيما عندما يخاطب البطولات العراقية والإنسانية ، صوراً لشخصيات ، مُهمشة ومقصيّة في أغلبها ، في مقدمتها الشهيد الأسطوري : ميثم التمار.أقول : حتى وهو يتحدث عن علي أو الحسين ، كنت أتصور أنه يقدم إلينا ميثم التمار ، بل إنه ، الجواهري ، وهو يرثي يوسف سلمان يوسف ” فهد” ، أو يعيد تشييد شخصية الشهيد جعفر الجواهري ، كان يقدم إلينا شخصية ” ميثم التمار ” الذي لم يلتفت إليه أحد ، في زمانه ، وحتى في زماننا هذا ، مع الأسف الشديد. ميثم التمار ، هو ابن النجف الأشرف ، كما الجواهري تماماً. ولعل هذه المدينة الخالدة ، عندما تتنفس هواء الشعر ، وهواء البطولة ، فإنها تتنفسها في اثنين : علي و ميثم!

وهي ، النجف ، ستبقى تتذكر ثلاثة : علي ، ميثم ، والجواهري!


(6)

الجواهري ، حقاً ، هو إبن الطبيعة ، بل ذراعها اليمنى ، عندما تتحول الى فن.

والطبيعة تتقدم نحو فرد بشريّ بعينه ، ودون سواه ، بينما هو ، هذا الفرد ، يُعدّ نفسه ، بالرياضة الثقافية والروحية ، ليلتقي بها ، عند نقطة سدرة المنتهى ، فيحدث إنفجار الإبداع الكبير. وهكذا كان الجواهرس في علاقته مع صورة الإبداع ، وجوهر هذا الإبداع ، في حياته وشعره.

في مجلس ضمني الى نجلة فرات، سالته : كيف هو حال والدك ، بعد اي قصيدة ينتهي من كتابتها؟ فقال: كان الوالد ، وقتها، كأنّ مسّاً خالطه ، وهو يهذي بقوله: حلّت بي الآلهة !

وهكذا ، أَبناء الطبيعة ، الشعراءُ


* روائي وكاتب

bottom of page