top of page

رابعا : في المَقامة اليونانية


ما بين براغ التي أطالت الشوط من عمره... وبغداد "دجلة الخير" والأزمات والمرارة في آن، حطّ الجواهري ركابه في النصف الثاني من السبعينات الماضية، في أثينا، مستأجراً "شقيّقةً" متواضعة دون حدود، ولكن أهم ما عندها من مغريات وقوعها على ساحل البحر مباشرة، وذلك هو الأحب لدى شاعرنا التوّاق والطامح لمزيد من الإيحاء...

... ومن يعرف الجواهري عن قرب، يعرف انه عاشق أبدي للأنهر والبحار، شواطئ وتدفقاً وضفافاً، وعلى مدى عقود حياته المديدة: وتلكم هي بارزة الشواهد ذات الصلة في ديوانه عن رافدي العــراق، ونيــل القاهرة، وبردى دمشق، وسواحل بيروت وأبي ظبي، والجزائر وطنجة، وفارنا، وغيرها، وفي روائع وصفات واستلهمت وأوحت بما لا يُزاحم على ما نظن، وهكذا كتب عن بحر اثينـــــا:

سجا البحر وانداحت ضفافٌ ندية ولوح رضراض الحصى والجنادلِ وفكت عرى عن موجة لصق موجة تماسك فيما بينها كالسلاسل... وما حمل "الاصباح" شرقاً إلى الضحى من الورق النَديان أشهى الرسائل

.... وفي مَقامة الجواهري، اليونانية، التي ندور حولها في هذه التأرخة العجول، نؤشر إلى ان اقامته في أثينا لم تكن إلا لفترات قصيرة ومتقطعة، اغتراباً عن الأحداث، وركون إلى النفس، وتمعناً في ما يمتليء به فكر الشاعر الرمز: فلسفة في الحياة ووقائعها، والمشاغل الانسانية العامة.... وهناك وفي تلك العوالم، ولدت قصيدته الباهرة عام 1977 "سجا البحر" التي اوردنا اعلاه مطلعها الحميم... وقد جاءت تستلهم من البحر، وتترجم عنه المزيد من الموحيات والعبر...

وهيمن صمت، فاستكنت حمائم، وقر على الأغصان شدو البلابلِ

تثاءب املود، ولمت كمائم ودب فتور في عروق الخمائل...

ثم تتنقل اللامية الايحائية ذات الثمانية والستين بيتاً، لتحدثنا عما جال في ذهن الجواهري من إلهام ومقارنات مع "صاحبه" البحر الهاديء – الهادر، والعريق – الشبوبُ، والشامخ - المتباسط... وان جاءت الحال مناجاة ووصفاً ومناغاة.

تنفس عميقاً أيها الشيخ لم يهن يجري على فرط المدى المتطاولِ

ولم ينسهِ التياهُ من جبروته عناق الشواطي واحتضان الجداول.. عبدتك صوفياً يدين ضميره بما ذر فيه من قرون الدخائل

... كما نوثق في هذا السياق ان الجواهري قد كتب خلال فترة مقامته اليونانية مقطوعة أخرى، تحية للطلبة العراقيين الذين التقوه في أثينا، عام 1979 وكانت بعنوان: يا فتية الوطن الحبيب... ثم انقطع أمد تلك الإقامة لأسباب مالية، ليس إلا، إذ لم يستطع شاعر الأمة العراقية أن يوفر متطلبات إيجار الشقة الزهيد، بينما كانت البلاد تتراكم فيها ثروات الفورة النفطية آنذاك، والبقية معروفة على ما نظن...

bottom of page